مفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الهداية والضلال
من ضمن المسائل التي ضلّ الناس عنها، وانحرفت مفاهيمها عندهم، مسائل متعلقة بالعقيدة مباشرة، ولها أثر سلبي عظيم على عقيدتهم كأفراد، وبالتالي أثرٌ مؤثر على سلوكهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وعلى تربيتهم الشخصية، وعلى تربية الأجيال من بعدهم، هذه المسائل كانت من ضمن المسائل التي نالها التحريف في عقيدة الإسلام ونظامه، وأفكار الإسلام ومقاييسه وقناعاته كما بيناها في الحلقات السابقة.
من أهم هذه المسائل المتعلقة بالعقيدة، مفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الهداية والضلال، ومفهوم الرزق، ومفهوم انتهاء الأجل، ومفهوم التوكل .
القضاء والقدر
لقد تسبب الجهل بمفهوم القضاء والقدر التأثير على نظرة الإنسان المسلم للحياة، ونظرته للواقع، وعلى المنهج الذي يسلكه في التعامل مع صناعة حاضره ومستقبله، وعلى مطالبه في الحياة وعلى التشكيك في دينه وعقيدته، أي على موقفه من العقيدة الإيمانية بوجود الله.
لذا يجب علينا أن نصحح مفهوم القضاء والقدر ونوليه عناية عظيمة، وبالتالي فعلينا التفريق بين أربع مسائل متعلقة بالقضاء والقدر، المسألة الأولى: أفعال الإنسان الاختيارية، والثانية: القضاء، والثالثة: القدر، والرابعة: اللوح المحفوظ، لأن الخلط بين هذه الأربع مسائل بغير علم يلخبط مسألة القضاء والقدر، وبالتالي تحصل المشكلة التي ذكرناها.
غالباً ما يظن كثير من المسلمين أن أفعال الإنسان جبرية، أي أن الإنسان مسيّر في أفعاله "كما يُظن"، فهي على حد قولهم مكتوبة في اللوح المحفوظ، ويُظن أن الله قد قدر على أناس أن يكونوا ضالين، وقدر على آخرين بالهداية، وخلق خلقاً للنار وخلقاً للجنة، ويُظن أن في الإنسان نزعة خير، ونزعة أخرى للشر، وبالتالي يظنون أن الإنسان تسيره نزعاتُه التي خلقها الله فيه، ولا يقدر هو على فعل ما يخالفها، ولذلك فإن هناك معسكر شر في الدنيا، وهناك معسكر خير، وكلاهما في صراع مستمر، وبالتالي فهناك مسلمون وآخرون كافرون بإرادة من الله وحكمٍ منه عليهم، وقد قرر الله قبل خلقهم "كما يظنون" عذاب هؤلاء، ونعيم أولئك، وليس هناك مهرب من دخولهم إلى النار أو دخولهم إلى الجنة، وما إلى آخر هذه الظنون المضلة والمضللة .
:أفعال الإنسان الاختيارية
عندما خلق الله الإنسان أعطاه ميزةً مختلفة عن كل المخلوقات الأخرى، أن أعطاه العقل، وحرية التصرف في الأفعال، أي حرية التصرف بين القيام بأفعال وعدم القيام بغيرها، وتركُ أفعال والقيام بغيرها مختاراً غير مجبر. وبالتالي فإن الإنسان بمقدوره أن يؤمن بالله، وكذا بمقدوره أن لا يؤمن به، وبمقدوره أن يقتل آخرين، وبمقدوره أن لا يفعل، وبمقدوره أن يتخلق بالخلق الحسن، وبمقدوره خلاف ذلك، وبمقدوره أن يزني، وبمقدوره أن يحصّن نفسه، وبمقدوره أن يرتزق بالمال الحلال أو يرتزق بالمال الحرام، وبمقدوره أن يطلب العلم أو أن يبقى جاهلاً، كل هذه الأمور هي في دائرة يسيطر عليها الإنسان وليس لأحد أن يمنعه منها، أو يدفعه جبراً لفعلها .
القضاء، أو الأفعال الغير اختيارية :
هي دائرة من الأفعال تسيطر على الإنسان وليست في دائرة اختياره، جزء منها مما يقتضيه نظام الوجود، والآخر منها مما لا يقتضيه نظام الوجود، فالإنسان يعيش ضمن نظام محدود في هذا الكون، بليله ونهاره وتداول أيامه وسنينه، وبطبيعة الأرض التي يعيش فيها بمائها وهوائها وأشجارها، وقد خلقه الله بصورة معينه في شكل رجليه ويديه ورأسه، وكيفيّة مجيئه إلى الدنيا وذهابه عنها، وصفات خلقية تحدد كيفية معينة للعيش في هذه الدنيا، وما إلى آخر هذه الأفعال التي ليس للإنسان فيها أن يقرر غيرها أو يغيّرها أو يعيش بخلافها، فالإنسان في هذه مجبر، ومسيّر وليس بمخيّر، وهذا كله من القضاء .
أما ما لا يقتضيه نظام الوجود من الأفعال، فهي الأفعال التي تحصل من الإنسان أوعليه جبراً عنه وليس بمقدوره دفعها، فمرض أحدهم أو شفاؤه من القضاء، ودخوله السجن أو الخروج منه من القضاء، وفَناء المال أو موت حبيب أو قريب فهو قضاء، وسقوط أحدهم على الأرض أو هلاكه دون إرادة منه فهو قضاء، وأن يعطل دولاب السيارة وهي مسرعة ويحصل مكروهاً، أو تتعطل السيارة في طريق السفر فيتعطل المسافرون فهو قضاء، أو يطلق أحدهم رصاصة على طير فأصابت أحدهم عن غير قصد، فهذا قضاء الله على صاحب الرصاصة، وقضاءٌ على من أصابته الرصاصة، إما إن أطلق أحدهم الرصاصة عمداً على أحدهم فهذا ليس قضاء الله من صاحب الرصاصة، وإنما هو فعل اختياري محاسب عليه، ولكنه قضاء على من أصابته الرصاصة .
وبالتالي فإن كل هذه الأفعال مما يقتضيها نظام الوجود، ومما لا يقتضيها نظام الوجود من أفعال الإنسان التي ليس بمقدور الإنسان دفعها، هي التي تسمى قضاء .
قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء 79
ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً
وقال تعالى في سورة السجدة 22
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، إنا من المجرمين منتقمون
وقال تعالى في سورة البقرة 117
بديع السموات والأرض ، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق